ولما رأى الحسين عليه السلام مصارع فتيانه وأحبته عزم على لقاء القوم بمهجته ونادى:
" هل من ذاب يذب عن حرم رسول الله صلى الله عليه وآله؟ هل من موحد يخاف الله فينا؟ هل من مغيث يرجو الله بإغاثتنا؟ هل من معين يرجو ما عند الله في إعانتنا؟ "
فارتفعت أصوات النساء بالعويل، فتقدم إلى باب الخيمة وقال لزينب عليه السلام:
" ناوليني ولدى الصغير حتى أودعه "
فأخذه وأومأ إليه ليقبله فرماه حرملة بن الكاهل الأسدي بسهم فوقع في نحره فذبحه.
فقال لزينب عليها السلام:
" خذيه "
ثم تلقى الدم بكفيه فلما إمتلأتا، رمى بالدم نحو السماء ثم قال:
" هون على ما نزل بي إنه بعين الله "
قال الإمام الباقر عليه السلام:
" فلم يسقط من ذلك الدم قطرة إلى الأرض "
ثم إن الحسين عليه السلام دعا الناس إلى البراز فلم يزل يقتل كل من بزر إليه حتى قتل مقتله عظيمة وهو في ذلك يقول:
القتل أولى من ركوب العار*** والعار أولى من دخول النار
قال بعض الرواة فوالله ما رأيت (مكثورا) قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربطَ جأشاً منه، وإن كانت الرجال لتشد عليه فيشد عليها بسيفه فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شد فيه الذئب، ولقد كان يحمل عليهم ولقد تكمّلوا ثلاثين ألفا فيهزمون بين يديه كأنهم الجراد المنتشر، ثم يرجع إلى مركزه وهو يقول:
" لا حول ولا قوة إلا بالله "
فلما رأى ذلك شمر بن ذي الجوشن ذلك استدعى الفرسان فصاروا في ظهور الرجالة، وأمر الرماة أن يرموه، فرشقوه بالسهام حتى صار جسمه كالقنفذ من كثرة السهام النابتة فيه، فأحجم عنهم، فوقفوا بإزائه.
قال الراوي ولم يزل عليه السلام يقاتلهم حتى حالوا بينه وبين رحله فصاح عليه السلام:
" ويلكم يا شيعة ال أبى سفيان إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحرارا في دنياكم هذه وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عُرباً كما تزعمون "
قال فناداه الشمر ما تقول يا ابن فاطمة؟.
فقال عليه السلام إني أقول:
"أقاتلكم وتقاتلونني والنساء ليس عليهن جناح فامنعوا عتاتكم وجهّالكم وطغاتكم من التعرض لحرمي ما دمت حيا".
فقال شمر: لك ذلك يا ابن فاطمة.
فقصدوه بالحرب، فجعل يحمل عليهم ويحملون عليه وهو في ذلك يطلب شربة من ماء فلا يجد حتى أصابه اثنان وسبعون جراحة فوقف يستريح ساعة، وقد ضعف عن القتال، فبينا هو واقف، إذ أتاه حجر فوقع على جبهته، فأخذ الثوب ليمسح الدم عن جبهته، فأتاه سهم مسموم له ثلاث شعب فوقع على قلبه.
فقال عليه السلام:
" بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وآله ".
ثم رفع رأسه إلى السماء وقال:
" الهي أنت تعلم إنهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن بنت نبي غيره "
ثم أخذ السهم فأخرجه من وراء ظهره، فانبعث الدم كأنه ميزاب، فضعف عن القتال ووقف، فكلما أتاه رجل انصرف عنه كراهة أن يلقى الله بدمه.
حتى جاءه رجل من كندة يقال له مالك بن النسر، فشتم الحسين عليه السلام وضربه على رأسه الشريف بالسيف فقطع البرنس، ووصل السيف إلى رأسه فامتلأ البرنس دماً..
قال الراوي: فاستدعى الحسين عليه السلام بخرقة فشد بها رأسه، واستدعى بقلنسوة فلبسها، وأعتم.
فلبثوا هنيهة ثم عادوا إليه وأحاطوا به، فخرج عبد الله بن الحسن بن علي عليه السلام وهو غلام لم يراهق من عند النساء، يشتد حتى وقف إلى جنب الحسين عليه السلام فلحقته زينب عليها السلام لتحبسه فأبى وامتنع امتناعاً شديداً فقال:
" لا والله لا أفارق عمي "
فأهوى بحر بن كعب وقيل حرملة بن كاهل إلى الحسين عليه السلام بالسيف. فقال له الغلام:
" ويلك يا بن الخبيثة أتقتل عمي؟ "
فضربه بالسيف فاتقى الغلام بيده فأطنها إلى الجلد فإذا هي معلقة فنادى الغلام:
"يا أماه".
فأخذه الحسين عليه السلام وضمه إليه وقال:
" يا بن أخي اصبر على ما نزل بك وأحتسب في ذلك الخير فإن الله يلحقك بابائك الصالحين "
قال فرماه حرملة بن كاهل بسهم فذبحه وهو في حجر عمه الحسين عليه السلام.
ثم إن شمر بن ذى الجوشن حمل على فسطاط الحسين عليه السلام فطعنه بالرمح ثم قال: عليّ بالنار أحرقه على من فيه.
فقال الحسين عليه السلام:
" يا بن ذي الجو شن أنت الداعي بالنار لتحرق على أهلي، أحرقك الله بالنار"
قال: ولما أثخن الحسين عليه السلام بالجراح (..) طعنه صالح ابن وهب المري على خاصرته طعنةً فسقط الحسين عليه السلام إلى الأرض على خده الأيمن وهو يقول:
" بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله ثم قام عليه السلام ".
وحملوا عليه من كل جانب، فضربه زرعة بن شريك على كتفه اليسرى وضرب الحسين عليه السلام زرعة فصرعه، وضربه اخر على عاتقه المقدس بالسيف ضربة كبا عليه السلام بها لوجهه، وكان قد أعيا وجعل ينوء ويكب، فطعنه سنان ابن أنس ألنخعي في ترقوته، ثم أنتزع الرمح فطعنه في بواني صدره، ثم رماه سنان أيضا بسهم فوقع السهم في نحره فسقط عليه السلام وجلس قاعدا.
فنزع السهم من نحره وقرن كفيه جميعاً، فكلما امتلأتا من دمائه خضب بهما رأسه ولحيته وهو يقول:
" هكذا ألقى الله مخضباً بدمى مغصوباً على حقي "
وروي عنه عليه السلام أنه قال:
"اللهم متعالي المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال، غني عن الخلائق، عريض الكبرياء، قادر على ما تشاء، قريب الرحمة، صادق الوعد، سابغُ النعمةِ، حَسَنُ البلاءِ، قريبٌ إذا دُعيتَ، محيطٌ بما خلقتَ، قابلُ التوبةِ لمن تاب إليكَ، قادر على ما أردت، تدرك ما طلبت، شكور إذا شُكرت، ذكور إذا ذُكرت، أدعوك محتاجاً وأرغب إليك فقيراً، وأفزع إليك خائفاً، وأبكي مكروباً، واستعين بك ضعيفاً وأتوكل عليك كافياً.
اللهم احكم بيننا وبين قومنا، فإنهم غرونا وخذلونا، وغدروا بنا وقتلونا، ونحن عترة نبيك، وولد حبيبك محمد الذي اصطفيته بالرسالة وائتمنته على الوحي، فاجعل لنا من أمرنا فرجاً ومخرجاً يا أرحم الراحمين..
صبراً على قضائك يا رب، لا إله سواك، يا غياث المستغيثين، مالي رب سواك ولا معبود غيرك، صبراً على حكمك، يا غياث من لا غياث له، يا دائماً لا نفاد له، يا محيي الموتى، يا قائماً على كل نفسٍ بما كسبت، احكم بيني وبينهم وأنت خير الحاكمين".
قال أحد رواة السيرة: كنت واقفاً مع أصحاب عمر بن سعد إذ صرخ صارخ أبشر أيها الأمير فهذا شمر قتل الحسين، قال فخرجت بين الصفين فوقفت عليه وإنه ليجود بنفسه، فوالله ما رأيت قط قتيلاً مضمخاً بدمه أحسن منه ولا أنور وجهاً، ولقد شغلني نور وجهه وجمال هيئته عن الفكرة في قتله، فاستسقى في تلك الحال ماءً فسمعت رجلاً يقول: والله لا تذوق الماء حتى ترد الحامية فتشرب من حميمها.
فسمعته يقول:
" يا ويلك أنا لا أرد الحامية ولا أشرب من حميمها بل أرد على جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وأسكن معه في داره في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر وأشرب من ماءٍ غير اسن وأشكو إليه ما ارتكبتم مني وفعلتم بي "
قال: فغضبوا بأجمعهم حتى كأن الله لم يجعل في قلب واحد منهم من الرحمة شيئاً.
وجلس الشمر على صدر الحسين عليه السلام وقبض على لحيته وضربه بسيفه اثنتا عشرة ضربة ثم حز رأسه المقدس المعظم.
ثم نادى عمر بن سعد في أصحابه من ينتدب للحسين عليه السلام فيواطئ الخيل ظهره وصدره فانتدب منهم عشرة. فداسوا الحسين عليه السلام بحوافر خيلهم حتى رضوا صدره وظهره.
فأي شهيدٍ أصلت الشمس جسمه *** ومشـــهدها من نوره متولدُ
وأي ذبيحٍ داست الخيل صـدره *** وفرســـانها من ذكره تتجمّدُ
ألم تك تدري أن روح محمد *** كـــقرآنه في سبطه متجسّدُ
فلو علمت تلك الخيول كأهلها *** بـأن الذي تحت السنابك أحمد
لثارت على فرسانها وتمردت *** عليهم كما ثاروا بها وتمرد
وخرجت عند ذلك مولاتنا زينب عليها السلام تندب الحسين عليه السلام وتنادي بصوتٍ حزين وقلبٍ كئيب:
"يا محمداه صلى عليك ملائكة السماء، هذا حسين مرمل بالدماء، مقطع الأعضاء، وبناتك سبايا، إلى الله المشتكى وإلى محمد المصطفى وإلى علي المرتضى وإلى فاطمة الزهراء وإلى حمزة سيد الشهداء، يا محمداه، هذا حسين بالعراء تسفي عليه الصبا، قتيل أولاد البغايا واحزناه، واكرباه، اليوم مات جدي رسول الله صلى الله عليه وآله يا أصحاب محمداه هؤلاء ذرية المصطفى يساقون سوق السبايا".
وفى رواية:
"يا محمداه بناتك سبايا وذريتك مقتلة تسفي عليهم ريح الصبا وهذا حسين محزوز الرأس من القفا مسلوب العمامة والرداء، بأبي من أضحى عسكره في يوم الاثنين نهبا، بأبي من فسطاطه مقطع العُرى، بأبي من لا غائب فيرتجى ولا جريح فيداوى، بأبي من نفسي له الفداء، بأبي المهموم حتى قضى، بأبي العطشان حتى مضى، بأبي من شيبته تقطر بالدماء، بأبي من جده محمد المصطفى، بأبي من جده رسول إله السماء، بأبي من هو سبط نبي الهدى، بأبي محمد المصطفى، بأبي خديجة الكبرى، بأبي علي المرتضى، بأبي فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، بأبي من ردت له الشمس وصلى".
فأبكت والله كل عدوٍ وصديق.
يا صاحب الأمر أدركنا فليس لنا***ورد هني ولا عيش لنا رغد
فانهض فدتك بقايا أنفس ظفرت ***بها النوائب حتى خانها الجلد
طالت علينا ليالي الانتظار فهل ***يابن الزكي لليل الانتظار غد